فصل: ذكر قتل الباطنية بواسط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر ملك القسطنطينية من الروم

في هذه السنة في شعبان ملك الفرنج مدينة القسطنطينية من الروم وأزالوا ملك الروم عنها وكان سبب ذلك أن ملك الروم بها تزوج أخت ملك إفرنسيس وهو من أكبر ملوك الفرنج فرزق منها ولدًا ذكرًا ثم وثب على الملك أخ له فقبض عيه وملك البلد منه وسمل عينيه وسجنه فهرب ولده ومضى إلى خاله مستنصرًا به عل عمه‏.‏

فاتفق ذلك وقد اجتمع كثير من الفرنج ليخرجوا إلى بلاد الشام لاستنقاذ البيت المقدس من المسلمين فأخذوا ولد الملك معهم وجعلوا طريقهم على القسطنطينية قصدًا لإصلاح الحال بينه وبين عمه ولم يكن له طمع في سوى ذلك فلما وصلوا خرج عمه في عساكر الروم محاربًا لهم فوقع القتال بينهم في رجب سنة تسع وتسعين وخمسمائة فانهزمت الروم ودخلوا البلد فدخله الفرنج معهم فهرب ملك الروم إلى أطراف البلاد وقيل إن ملك الروم لم يقاتل الفرنج بظاهر البلد وإنما حصروه فيها‏.‏

وكان بالقسطنطينية من الروم من يريد الصبي فألقوا النار في البلد فاشتغل الناس بذلك ففتحوا بابًا من أبواب المدينة فدخلها الفرنج وخرج ملكها هاربًا وجعل الفرنج الملك في ذلك الصبي وليس له من الحكم شي وأخرجوا أباه من السجن إنما الفرنج هم الحكام في البلد فثقلوا الوطأة على أهله وطلبوا منهم أموالًا عجزوا عنها وأخذوا أموال البيع وما فيها من ذهب ونقرة وغير ذلك حتى ما على الصلبان وما هو عل صورة المسيح عليه السلام والحواريين وما على الأناجيل من ذلك أيضًا فعظم ذلك على الروم وحملوا منه خطبًا عظيمًا فعمدوا إلى ذلك الصبي الملك فقتلوه وأخرجوا الفرنج من البلد وأغلقوا الأبواب وكان ذلك في جمادى الأولى سنة ستمائة فأقام الفرنج بظاهره محاصرين للروم وقاتلوهم ولازموا قتالهم ليلًا ونهارًا وكان الروم قد ضعفوا ضعفًا كثيرًا فأرسلوا إلى السلطان ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان صاحب قونية وغيرها من البلاد يستنجدونه فلم يجد إلى ذلك سبيلًا‏.‏

وكان بالمدينة كثير من الفرنج مقيمين يقاربون ثلاثين ألفًا ولعظم البلد لا يظهر أمرهم فتواضعوا هم والفرنج الذين بظاهر البلد ووثبوا فيه وألقوا النار مرة ثانية فاحترق نحو ربع البلد وفتحوا الأبواب فدخلوها ووضعوا السيف ثلاثة أيام وفتكوا بالروم قتلًا ونهبًا فأصبح الروم كلهم ما بين قتيل أو فقير لا يملك شيئًا ودخل جماعة من أعيان الروم الكنيسة العظمة التي تدعى صوفيا فجاء الفرنج إليها فخرج إليهم جماعة من القسيسين والأساقفة والرهبان بأيديهم الإنجيل والصليب يتوسلون بهما إلى الفرنج ليبقوا عليهم فلم يلتفتوا إليهم وقتلوهم أجمعين ونهبوا الكنيسة‏.‏

وكانوا ثلاثة ملوك‏:‏ دوقس البنادقة وهو صاحب المراكب البحرية وفي مراكبه ركبوا إلى القسطنطينية وهو شيخ أعمى إذا ركب تقاد فرسه والأخر يقال له المركيس وهو مقدم الإفرنسيس والآخر يقال له كند أفلند وهو أكثرهم عددًا فلما استولوا على القسطنطينية اقترعوا على الملك فخرجت القرعة على كند أفلند فأعادوا القرعة ثانية وثالثة فخرجت ليه فملكوه والله يؤتي ملكه من يشاء وينزعه ممن يشاء فلما خرجت القرعة عليه ملكوه عليها وعلى ما يجاورها وتكون لدوقس البنادقة الجزائر البحرية مثل جزيرة إقريطش وجزيرة رودس وغيرهما ويكون لمركيس الإفرنسيس البلاد التي هي شرقي الخليج مثل أزنيق ولاذيق فلم يحصل لأحد منهم شيء غير الذي أخذ القسطنطينية وأما الباقي فلم يسلم من به من الروم وأما البلاد التي كانت لملك القسطنطينية شرقي الخليج المجاورة لبلاد ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان ومن جملتها أزنيق ولاذيق فإنها تغلب عليها بطريق كبير من بطارقة الروم اسمه لشكري وهي بيده إلى الآن‏.‏

  ذكر انهزام نور الدين صاحب الموصل من العساكر العادلية

في هذه السنة في العشرين من شوال انهزم نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل من العساكر العادلية وسبب ذلك أن نور الدين كان بينه وبين عمه قطب الدين محمد بن زنكي صاحب سنجار وحشة مستحكمة أولًا ثم اتفقا وسار معه إلى ميافارقين سنة خمس وتسعين وقد ذكرناه فلما كان الآن أرسل الملك العادل أبو بكر بن أيوب صاحب مصر ودمشق وبلاد الجزيرة إلى قطب الدين واستماله فمال إليه وخطب له فلما سمع نور الدين ذلك سار إلى مدينة نصيبين وسلخ شعبان وهي لقطب الدين فحصرها وملك المدينة وبقيت القلعة فحصرها عدة أيام فبينما هو يحاصرها وقد أشرف على أن يتسلمها أتاه الخبر أن مظفر الدين دوكبري بن زين الدين علي صاحب إربل قد قصد أعمال الموصل فنهب نينوى وأحرق غلاتها فلما بلغه ذلك من نائبه المراتب بالموصل يحفظها سار عن نصيبين إلى الموصل على عزم العبور إلى بلد إربل ونهبه جزاء بما فعل صاحبها ببلده فوصل إلى مدينة بلد وعاد مظفر الدين إلى بلده وتحقق نور الدين أن الذي قيل له وقع فيه زيادة فسار إلى تل أعفر من بلد وحصرها وأخذها ورتب أمورها وأقام عليها سبعة عشر يومًا‏.‏

وكان الملك الأشرف موسى ابن الملك العادل بن أيوب قد سار من مدينة حران إلى رأس عين نجدة لقطب الدين صاح بسنجار ونصيبين وقد اتفق هو ومظفر الدين صاح إربل وصاحب الحصن وآمد وصاحب جزيرة ابن عمر وغيرهم على ذلك وعلى منع نور الدين من أخذ شيء من بلاده وكلهم خائفون منه ولم يمكنهم الاجتماع وهو على نصيبين فلما فارقها نور الدين سار الأشرف إليها وأتاه صاحب الحصن وصاحب الجزيرة وصاحب دارا وساروا عن نصيبين نحو بلد البقعا قريبًا من بوشرى وسار نور الدين من تل أعفر إلى كفر زمار وعزم على المطاولة ليتفرقوا فأتاه كتاب من بعض مماليكه يسمى جرديك وقد أرسله يتجسس أخبارهم فيقللهم في عينه ويطمعه فيهم ويقول‏:‏ إن أذنت لي لقيتهم بمفردي فسار حينئذ نور الدين إلى بوشرى فوصل إليها من الغد الظهر وقد تعبت دوابه وأصحابه ولقوا شدة من الحر فنزل بالقرب منهم أقل من ساعة‏.‏

وأتاه الخبر أن عساكر الخصم قد ركبوا فركب هو وأصحابه وساروا نحوهم فلم يروا لهم أثرًا فعاد إلى خيامه ونزل هو وعساكره وتفرق كثير منهم في القرى لتحصيل العلوفات وما يحتاجون إليه فجاءه من أخبره بحركة الخصم وقصده فركب نور الدين وعسكره وتقدموا إليهم وبينهم نحو فرسخين فنزلوا وقد ازداد تعبهم والخصم مستريح فالتقوا واقتتلوا فلم تطل الحرب بينهم حتى انهزم عسكر نور الدين وانهزم هو أيضًا وطلب الموصل فوصل إليها في أربعة أنفس وتلاحق الناس وأتى الأشرف ومن معه فنزلوا في كفر زمار ونهبوا البلاد نهبًا عظيمًا وأهلكوا ما لم يصلح لهم لا سيما مدينة بَلدَ فإنهم أفحشوا في نهبها‏.‏

ومن أعجب ما سمعنا أن امرأة كانت تطبخ فرأت النهب فألقت سوارين كانا في يديها في النار وهربت فجاء بعض الجند ونهب ما في البيت فرأى فيه بيضًا فأخذه وجعله في النار وطال مقامهم والرسل تتردد في الصلح فوقف الأمر على إعادة تل أعفر ويكون الصلح على القاعدة الأولى وتوقف نور الدين في إعادة تل أعفر فلما طال الأمر سلمها إليهم وأصطلحوا أوائل سنة إحدى وستمائة وتفرقت العساكر من البلاد‏.‏

  ذكر خروج الفرنج بالشام إلى بلد الإسلام والصلح معهم

في هذه السنة خرج كثير من الفرنج في البحر إلى الشام وسهل الأمر عليهم بذلك لملكهم قسطنطينية وأرسلوا بعكا وعزموا على قصد البيت المقدس حرسه الله واستنقاذه من المسلمين فلما استراحوا بعكا ساروا فنهبوا كثيرًا من بلاد الإسلام بنواحي الأردن وسبوا وفتكوا في المسلمين‏.‏

وكان الملك العادل بدمشق فأرسل في جمع العساكر من بلاد الشام ومصر وسار فنزل عند الطور بالقرب من عكا لمنع الفرنج من قصد بلاد الإسلام ونزل الفرنج بمرج عكا وأغاروا على كفركنا فأخذوا كل من بها وأموالهم والأمراء يحثون العادل على قصد بلادهم ونهبها فلم يفعل فبقوا كذلك إلى أن انقضت السنة وذلك سنة إحدى وستمائة فاصطلح هو والفرنج على دمشق وأعمالها وما بيد العادل من الشام ونزل لهم عن جميع المناصفات في الصيدا والرملة وغيرهما وأعطاهم ناصرة وغيرها وسار نحو الديار المصرية‏.‏

فقصد الفرنج مدينة حماة فلقيهم صاحبها ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب فقاتلهم وكان في قلة فهزموه وتبعوه إلى البلد فخرج العامة إلى قتالهم فقتل الفرنج منهم جماعة وعاد الفرنج‏.‏

  ذكر قتل كوكجة ببلاد الجبل

قد ذكرنا قبل تغلب كوكجة مملوك البهلوان على الري وهمذان وبلد الجبل وبقي إلى الآن وكان قدج اصطنع مملوكًا آخر للبهلوان اسمه إيدغمش وقدمه وأحسن إليه ووثق به فجمع إيدغمش الجموع من المماليك وغيرهم ثم قصد كوكجة فتصافا واقتتل الفريقان فقتل كوكجة في الحرب واستولى إيدغمش على البلاد وأخذ معه أوزبك بن البهلوان له اسم الملك وإيدغمش هو المدبر له والقيم بأمر المملكة وكان شهمًا شجاعًا ظالمًا وكان كوكجة عادلًا حسن السيرة رحمه الله‏.‏

  ذكر وفاة ركن الدين بن قلج أرسلان وملك ابنه بعده

و في هذه السنة سادس ذي القعدة توفي ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن سلجوق صاحب ديار الروم ما بين ملطية وقونية وكان موته بمرض القولنج في سبعة أيام وكان قبل مرضه بخمسة أيام قد غدر بأخيه صاحب أنكورية وتسمى أيضًا أنقرة وهي مدين منيعة وكان مشاقًا لركن الدين فحصره عدة سنين حتى ضعف وقلت الأقوات عنده فأذعن بالتسليم على عوض يأخذه فعوضه قلعة في أطراف بلده وحلف له عليها فنزل أخوه عن مدينة أنقرة وسلمها ومعه ولدان له فوضع ركن الدين عليه من أخذه وأخذ أولاده معه فقتله فلم يمض غير خمسة أيام حتى أصابه القولنج فمات‏.‏

واجتمع الناس على ولده قلج أرسلان وكان صغيرًا فبقي في الملك إلى بعض سنة إحدى وستمائة وأخذ منه على ما نذكره هناك‏.‏

وكان ركن الدين شديدًا على الأعداء قيمًا بأمر الملك إلا أن الناس كانوا ينسبونه إلى فساد الاعتقاد كان يقال إنه يعتقد أن مذهبه مذهب الفلاسفة وكان كل من يرمى بهذا المذهب يأوي إليه ولهذه الطائفة منه إحسان كثير إلا أنه كان عاقلًا يحب ستر هذا المذهب لئلا ينفر الناس عنه‏.‏

حكي لي أنه كان عنده إنسان وكان يرمى بالزندقة ومذهب الفلاسفة وهو قريب منه فحضر يومًا عنده فقيه فتناظرا فأظهر شيئًا من اعتقاد الفلاسفة فقام الفقيه إليه ولطمه وشتمه بحضرة ركن الدين وركن الدين ساكت وخرج الفقيه فقال لكرن الدين‏:‏ يجري علي مثل هذا في حضرتك ولا تنكره فقال‏:‏ لو تكلمت لقتلنا جميعًا ولا يمكن إظهار ما تريده أنت ففارقه‏.‏

  ذكر قتل الباطنية بواسط

في هذه السنة قتل الباطنية بواسط وسبب كونهم بها وقتلهم أنه ورد إليها رجل يعرف بالزكم محمد بن طالب بن عصية وأصله من القارب من قرى واسط وكان باطنيًا ملحدًا ونزل مجاورًا لدور بني الهروي وغشيه الناس وكثر أتباعه‏.‏

وكان ممن يغشاه رجل يعرف بحسن الصابوني فاتفق أنه اجتاز بالسويقة فكلمه رجل نجار في مذهبهم فرد عليه الصابوني ردًا غليظًا فقام إليه النجار وقتله وتسامع الناس بذلك فوثبوا وقتلوا من وجدوا ممن ينتسب إلى هذا المذهب وقصدوا دار ابن عصية وقد اجتمع إليه خلق من أصحابه وأغلقوا الباب وصعدوا إلى سطحها ومنعوا الناس عنهم فصعدوا إليهم من بعض الدور من على السطح وتحصن من بقي في الدار بإغلاق الأبواب والممارق فكسروها ونزلوا فقتلوا من وجدوا في الدار وأحرقوا وقتل ابن عصية وفتح الباب وهرب منهم جماعة فقتلوا وبلغ الخبر إلى بغداد وانحدر فخر الدين أبو البدر بن أمسينا الواسطي لإصلاح الحال وتسكين الفتنة‏.‏

  ذكر استيلاء محمود على مرباط وغيرها من حضرموت

في هذه السنة استولى إنسان اسمه محمود بن محمد الحميري على مدينة مرباط وظفار وغيرهما من حضرموت وإن ابتداء أمره أنه له مركب يكريه في البحر للتجار ثم وزر لصاحب مرباط وفيه كرم وشجاعة وحسن سيرة فلما توفي صاحب مرباط ملك المدينة بعده وأطاعه الناس محبة له لكرمه وسيرته ودامت أيامه بها فلما كان سنة تسع عشرة وستمائة خرب مرباط وظفار وبنى مدينة جديدة على ساحل البحر بالقرب من مرباط وعندها عين عذبة كبيرة أجراها إلى المدينة وعمل عليها سورًا وخندقًا وحصنها وسماها الأحمدية وكان يحب الشعر ويكثر الجائزة عليه‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة خرج أسطول من الفرنج إلى الديار المصرية فنهبوا مدينة فوة وأقاموا خمسة أيام يسبون وينهبون وعساكر مصر مقابلهم بينهم النيل ليس لهم وصول إليهم لأنهم لم تكن لهم سفن‏.‏

وفيها كانت زلزلة عظيمة عمت أكثر البلاد مصر والشام والجزيرة وبلاد الروم وصقلية وقبرس ووصلت إلى الموصل والعراق وغيرهما وخرب من مدينة صور سورها وأثرت في كثير من الشام‏.‏

وفيها في رجب اجتمع جماعة من الصوفية برباط شيخ الشيوخ ببغداد وفيهم صوفي اسمه أحمد بن إبراهيم الداري من أصحاب شيخ الشيوخ عبد الرحيم بن إسمعيل رحمهم الله ومعهم مغن يغني ويقول الشعر‏:‏ عويذلتي أقصري كفى بمشيبي عذل شباب كأن لم يكن وشيب كأن لم يزل وحق ليالي الوصال أواخرها والأول وصفرة لون المحب عند استماع العذل لئن عاد عيشي بكم حلا العيش لي واتصل فتحرك الجماعة عادة الصوفية في السماع وطرب الشيخ المذكور وتواجد ثم سقط مغشيًا عيه فحركوه فإذا هو ميت فصلي عليه ودفن وكان رجلًا صالحًا‏.‏

وفيها توفي أبو الفتوح أسعد بن محمود العجلي الفقيه الشافعي بأصفهان في صفر وكان إمامًا فاضلًا‏.‏

وفي رمضان منها توفي قاضي هراة عمدة الدين الفضل بن محمود بن صاعد الساوي وولي بعده ابنه صاعد‏.‏

  ثم دخلت سنة إحدى وستمائة

  ذكر ملك كيخسرو بن قلج أرسلان بلاد الروم من ابن أخيه

في هذه السنة في رجب ملك غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بلاد الروم التي كانت بيد أخيه ركن الدين سليمان وانتقلت بعد موته إلى ابنه قلج أرسلان بن ركن الدين‏.‏

وكان سبب ملك غياث الدين لها أن ركن الدين كان قد أخذ ما كان لأخيه غياث الدين وهو مدينة قونية فهرب غياث الدين منه وقصد الشام إلى الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب فلم يجد عنده قبولًا وقصر به فسار من عنده وتقلب في البلاد إلى أن وصل إلى القسطنطينية فأحسن إليه ملك الروم وأقطعه وأكرمه فأقام عنده وتزوج بابنة بعض وكان لهذا البطريق قلعة من عمل القسطنطينية فلما ملك الفرنج القسطنطينية هرب غياث الدين إلى حميه وهو بقلعته فأنزله عنده وقال له‏:‏ نشترك في هذه القلعة ونقنع بدخلها‏.‏

فأقام عنده فلما مات أخوه سنة ستمائة كما ذكرناه اجتمع الأماء على ولده وخالفهم الأتراك الأوج وهم كثير بتلك البلاد وأنف من اتباعهم وأرسل إلى غياث الدين يستدعيه إليه ليملكه البلاد فسار إليه فوصل في جمادى الأولى واجتمع به وكثر جمعه وقصد مدينة قونية ليحصرها وكان ولد ركن الدين والعساكر بها فأخرجوا إليه طائفة من العسكر فلقوا فهزموه فبقي حيران لا يدري أين يتوجه فقصد بلدة صغيرة يقال لها أوكرم بالقرب من قونية‏.‏

فقدر الله تعالى أن أهل مدينة أقصر وثبوا على الوالي فأخرجوه منها ونادوا بشعار غياث الدين فلما سمع أهل قونية بما فعله أهل أقصرا قالوا‏:‏ نحن أولى من فعل هذا لأنه كان حسن السيرة فيهم لما كان مالكهم فنادوا باسمه أيضًا وأخرجوا من عندهم واستدعوه فحضر عندهم وملك المدينة وقبض على ابن أخيه ومن معه وآتاه الله الملك وجمع له البلاد جميعها في ساعة واحدة فسبحا من إذا أراد أمرًا هيأ أسبابه‏.‏

وكان أخوه قيصر شاه الذي كان صاحب ملطية لما أخذها ركن الدين منه سنة سبع وتسعين خرج منها وقصد الملك العادل أبا بكر بن أيوب لأنه كان تزوج ابنته مستنصرًا به فأمره بالمقام بمدينة الرها فأقام بها فلما سمع بملك أخيه غياث الدين سار إليه فلم يجد عنده قبولًا إنما أعطاه شيئًا وأمره بمفارقة البلاد فعاد إلى الرها وأقام بها فلما استقر ملك غياث الدين سار إليه الأفضل صاحب سميساط فلقيه بمدينة قيسارية وقصده أيضًا نظام الدين صاحب خرت برت وصار معه فعظم شأنه وقوي أمره‏.‏

  ذكر حصر صاحب آمد خرت برت ورجوعه عنها

كانت خرت برت لعماد الدين بن قرا أرسلان فمات وملكها بعده ابنه نظام الدين أبو بكر والتجأ إلى ركن الدين بن قلج أرسلان وبعده إلى أخيه غياث الدين ليمتنع به من ابن عمه ناصر الدين محمود بن محمد بن قرا أرسلان فامتنع به‏.‏

وكان صاح بآمد ملتجئًا إلى الملك العادل وفي طاعته وحضر مع ابنه الملك الأشرف قتال صاحب الموصل على شرط أنه يسير معه في عساكره ويأخذ له خرت برت وإنما طمع فيها بموت ركن الدين فلما دخلت هذه السنة طلب ما كان استقر الأمر عليه فسار معه الملك الأشرف وعساكر ديار الجزيرة من سنجار وجزيرة ابن عمر والموصل وغيرها وكان نزولهم

عليها في شعبان وفي رمضان تسلموا ربضها وكان صاحبها قد اجتمع بغياث الدين بعد أن ملك البلاد الرومية وصار معه في طاعته فلما نزل صاحب آمد على خرت برت خاطب صاحبها غياث الدين ينجده بعسكره يرحلهم عنه فجهز عسكرًا كثيرًا عدتهم ستة آلاف فارس وسيرهم مع الملك الأفضل علي بن صلاح الدين وهو صاحب سميساط فلما وصل العسكر إلى ملطية فارق صاحب آمد ومن معه من خرت برت ونزلوا إلى الصحراء وحصروا البحيرة المعروفة ببحيرة سمنين وبها حصنان أحدهما لصاحب خرت برت فحصره وزاحفه ففتحه ثاني ذي الحجة‏.‏

ووصل صاحب خرت برت مع العسكر الرومي إلى خرت برت فرحل صاحب آمد عن البحيرة وقوى الحصن الذي فتحه فيها فأزاح علته ورحل إلى خلف مرحلة ونزل وترددت الرسل والعسكر الرومي يطلب البحيرة وصاحب آمد يمتنع من ذلك فلما طال الأمر بقي الحصن بيد صاحب آمد وانفصل العسكران وعاد كل فريق إلى بلاده‏.‏

  ذكر الفتن ببغداد

في سابع عشر رمضان جرت فتنة ببغداد بين أهل باب الأزج وأهل المأمونية وسببها أن أهل باب الأزج قتلوا سبعًا وأرادوا أن يطوفوا به فمنعهم أهل المأمونية فوقعت الفتنة بينهما عند البستان الكبير فجرح منه خلق كثير وقتل جماعة وركب صاحب الباب لتسكين الفتنة فجرح فرسه فعاد‏.‏

فلما كان الغد سار أهل المأمونية إلى أهل باب الأزج فوقعت بينهم فتنة شديدة وقتال بالسيوف والنشاب واشتد الأمر فنهبت الدور القريبة منهم وسعى الركن ابن عبد القادر ويوسف العقاب في تسكين الناس وركب الأتراك فصاروا يبيتون تحت المنظرة فامتنع أهل الفتنة من الاجتماع فسكنوا‏.‏

وفي العشرين منه جرت فتنة بين أهل قطفتا والقرية من محال الجانب الغربي بسبب قتل سبع أيضًا أراد أهل قطفتا أن يجتمعوا ويطوفوا به فمنعهم أهل القرية أن يجوزوا به عندهم فاقتتلوا وقتل بينهم عدة قتلى فأرسل إليهم عسكر من الديوان لتلافي الأمر ومنع الناس عن الفتنة فامتنعوا‏.‏

وفي تاسع رمضان كانت فتنة بين أهل سوق السلطان والجعفرية منشأها أن رجلين من المحلتين اختصما وتوعد كل واحد منهما صاحبه فاجتمع أهل المحلتين‏.‏

واقتتلوا في مقبرة الجعفرية فسير إليهم من الديوان من تلافى الأمر وسكنه فلما كثرت الفتن رتب أمير كبير من مماليك الخليفة

  ذكر غارة الكرج على بلاد الإسلام

في هذه السنة أغارت الكرج على بلاد الإسلام من ناحية أذربيجان فأكثروا العيث والفساد والنهب والسبي ثم أغاروا على ناحية خلاط من أرمينية فأوغلوا في البلاد حتى بلغوا ملازكرد ولم يخرج إليهم أحد من المسلمين يمنعهم فجاسوا خلال البلاد ينهبون ويأسرون ويسبون وكلما تقدموا تأخرت عساكر المسلمين عنهم ثم إنهم رجعوا فالله تعالى ينظر إلى الإسلام وأهله وييسر لهم من يحمي بلادهم ويحفظ ثغورهم ويغزو أعداءهم‏.‏

وفيها أغارت الكرج على بلاد خلاط فأتوا إلى أرجيش ونواحيها فنهبوا وسبوا وخربوا البلاد وساروا إلى حصن التين من أعمال خلاط وهو مجاور أرزن الروم فجمع صاحب خلاط عسكره وسار إلى ولد قلج أرسلان صاحب أرزن الروم فاستنجده على الكرج فسير عسكره جميعه معه فتوجهوا نحو الكرج فلقوهم وتصافوا واقتتلوا فانهزمت الكرج وقتل زكري الصغير وهو من أكابر مقدميهم وهو الذي كان مقدم هذا العسكر من الكرج والمقاتل بهم وغنم المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والكراع وغير ذلك وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا وأسروا كذلك وعاد إلى بلاده‏.‏

و في هذه السنة أيضًا كانت الحرب بين الأمير قتادة الحسني أمير مكة وبين الأمير سالم بن قاسم الحسيني أمير المدينة ومع كل واحد منهما جمع كثير فاقتتلوا قتالًا شديدًا وكانت الحرب بذي الحليفة بالقرب من المدينة وكان قتادة قد قصد المدينة ليحصرها ويأخذها فلقيه سالم بعد أن قصد الحجرة على ساكنها الصلاة والسلام فصلى عندها ودعا وسار فلقيه فانهزم قتادة وتبعه سالم إلى مكة فحصره بها فأرسل قتادة إلى من مع سالم من الأمراء فأفسدهم عليه فمالوا إليه وحالفوه فلما رأى سالم ذلك رحل عنه عائدًا إلى المدينة وعاد أمر قتادة قويًا‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة قطعت خطبة ولي العهد وأظهر خط قرئ بالدار الوزير نصير الدين ناصر بن مهدي الرازي وإذا هو خط ولي العهد الأمير أبي نصر ابن الخليفة إلى أبيه الناصر لدين الله أمير المؤمنين يتضمن العجز عن القيام بولاية العهد ويطلب الإقالة وشهد عدلان أنه خطه وأن الخليفة أقاله وعمل بذلك محضر شهد فيه القضاة والعدول والفقهاء‏.‏

و في هذه السنة ولدت امرأة ببغداد ولدًا له رأسان وأربع أرجل ويدان ومات في يومه‏.‏

وفيها أيضًا وقع الحريق في خزانة السلاح التي للخليفة فاحترق فيها منه شيء كثير وبقيت النار يومين وسار

  ذكر هذا الحريق في البلدان فحمل الملوك من السلاح إلى بغداد شيئًا كثيرًا‏‏

و في هذه السنة وقع الثلج بمدينة هراة أسبوعًا كاملًا فلما سكن جاء بعده سيل من الجبل من باب سرا خرب كثيرًا من البلد ورمى من حصنه قطعة عظيمة وجاء بعده برد شديد أهلك الثمار فلم يكن بها تلك السنة شيء إلا اليسير‏.‏

وفيها في شعبان خرج عسكر من الغورية مقدمهم الأمير زنكي بن مسعود إلى مدينة مرو فلقيهم نائب خوارزم شاه بمدينة سرخس وهو الأمير جقر وكمن لهم كمينًا فلما وصولا إليه هزمهم وأخذ وجوه الغورية أسرى فلم يفلت منهم إلا القليل وأخذ أميرهم زنكي أسيرًا فقتل صبرًا وعلقت رؤوسهم بمرو أيامًا‏.‏

وفيها في ذي القعدة سار الأمير عماد الدين عمر بن الحسين الغوري صاحب بلخ إلى مدينة ترمذ وهي للأتراك الخطا فافتتحها عنوة وجعل بها ولده الأكبر وقتل من بها من الخطا ونقل العلويين منها إلى بلخ وصارت ترمذ دار إسلام وهي من أمنع الحصون وأقواها‏.‏

وفيها توفي صدر الدين السجزي شيخ خانكاه السلطان بهراة‏.‏

وفيها في صفر توفي أبو علي الحسن بن محمد بن عبدوس الشاعر الواسطي وهو من الشعراء المجيدين واجتمعت به بالموصل وردها مادحًا لصاحبها نور الدين أرسلان شاه وغيره من المقدمين وكان نعم الرجل حسن الصحبة والعشرة‏.‏

وفيها اجتمع ببغداد رجلان أعميان على رجل أعمى أيضًا وقتلاه بمسجد طمعًا في أن يأخذا منه شيئًا فلم يجدا معه ما يأخذانه وأدركهما الصباح فهربا من الخوف يريدان الموصل ورؤي الرجل مقتولًا ولم يعلم قاتله فاتفق أن بعض أصحاب الشحنة اجتاز من الحريم في خصومة جرت فرأى الرجلين الضريرين فقال لمن معه‏:‏ هؤلاء الذين قتلوا الأعمى يقوله مزحًا فقال أحدهما‏:‏ هذا والله قتله فقال الآخر‏:‏ بل أنت قتلته فأخذا إلى صاحب الباب فأقرا فقتل أحدهما وصلب الآخر على باب المسجد الذي قتلا فيه الرجل‏.‏